كتب المستشار د. أحمد يوسف
على امتداد سنتي الحرب وما رافقهما من مآسٍ إنسانية طاحنة، لم تغب الإمارات العربية المتحدة عن المشهد الفلسطيني؛ إذ كانت حاضرةً بجهودها الإغاثية والطبية والإنسانية، لتغدو سنداً وعوناً لشعب يواجه واحدةً من أبشع صور العدوان والتطهير العرقي في عصرنا الحديث. فمنذ اللحظات الأولى لانفجار المأساة، بادرت الإمارات إلى إطلاق جسور جوية وبحرية لإيصال المساعدات الغذائية والطبية والإيوائية، وقدّمت برامج إغاثة عاجلة استهدفت مئات الآلاف من النازحين والجرحى. كان حضورها كنسمة رحمة تتسلل إلى الخيام الممزقة، وكبصيص نور يبدد وحشة الليل في عيون الأطفال.
ولم تتوقف الجهود عند حدود الاستجابة العاجلة، بل امتدت إلى مشروعات نوعية تركت بصمتها الواضحة، مثل إنشاء المستشفى الميداني الإماراتي في قطاع غزة، وتسيير قوافل طبية متواصلة ضمّت أطباءً متخصصين وفرق إنقاذ، إلى جانب تبنّي مبادرات لإجلاء الجرحى والأطفال المصابين للعلاج في مستشفيات داخل الإمارات وخارجها. كما حرصت الإمارات على تخصيص برامج إنسانية لدعم النساء والأطفال، باعتبارهم الفئة الأكثر هشاشة في أتون النزوح والحصار، وابتكرت مبادرات تعليمية بديلة لإبقاء جذوة العلم متقدة في وجدان أطفال المخيمات؛ أولئك الذين صار الكتاب والدفتر لهم نافذة أمل تذكّرهم بأن المستقبل ما زال ينتظرهم.
وعلى مدار عامين كاملين من الحرب، ظلّت الإمارات ثابتةً على موقفها الأخلاقي والإنساني، مقدّمة نموذجاً عربياً مشرفاً في الاستجابة السريعة والمنظمة لاحتياجات الفلسطينيين، حيث سخّرت طاقاتها ومواردها لتخفيف حدة الكارثة، ونسّقت مع مؤسسات دولية وهيئات إغاثية لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها بفاعلية وعدالة. لقد كان عطاءها كيدٍ حانية تُمسح بها دمعة أمٍّ ثكلى، أو كقطرة ماء تُروى بها شفاه عطشى في صحراء النزوح.
وفي هذا السياق، برز مشروع الفارس الشهم (3) كعنوان بارز للنجدة والعطاء، إذ تصدّر المشهد الإغاثي العربي، وكان رافعةً لشد أزر النازحين وتعزيز صمودهم في مواجهة مشاريع الترحيل ومخططات التهجير. واليوم، تأتي مبادرة «إمارات الحياة العابرة للحدود» لتشكّل امتداداً طبيعياً لذلك النهج الإنساني، حيث تعكس وعياً متقدماً بحجم المأساة واستمرارية المعاناة، وتجسّد التزاماً طويل الأمد تجاه الشعب الفلسطيني.
لقد انطلقت هذه المبادرة، التي أشرف على إطلاقها المهندس هاني أبو عكر بدعم إماراتي كامل، لتقدّم آلاف الطرود الغذائية لعشرات المخيمات، وتنقذ التكايا التي اضطر بعضُها إلى إغلاق أبوابها، بفعل سياسة الاحتلال في التضييق وسرقة الشاحنات قبل وصولها إلى محطات التخزين والتوزيع التابعة للفارس الشهم. وبهذا أعادت المبادرة الحياة إلى أوعية الخير، وفتحت أبواب الأمل من جديد أمام العائلات المنكوبة التي كانت تقف في صفوف الانتظار بقلوبٍ يملؤها القلق.
إن الإشادة بالجهود الإماراتية ليست ثناءً عابراً، بل هي اعتراف وتثمين لمواقف عملية أثبتت أن التضامن العربي يمكن أن يكون مؤثراً إذا ما توافرت الإرادة الصادقة والالتزام. فخلال سنتي الحرب، قدّمت الإمارات عبر عملية الفارس الشهم (3) ما يقارب ملياراً ونصف المليار دولار، ثم أتبعت ذلك بإطلاق مبادرتها الجديدة "إمارات الحياة" التي تهدف إلى تنظيم مخيمات النازحين وضمان وصول المساعدات للجميع بشكل عادل ومستمر. وهي مبادرة تحمل في جوهرها رسالة طمأنة: أن فلسطين ليست وحدها، وأن هناك من يشاركها الجرح ويحمل همَّها في أصعب اللحظات.
ولا ريب أن هذه المبادرة – بما تحمله من روح التنظيم والإدارة – ستُشعر كل نازح في خيمته بأن حصته من المساعدات ستصله، وأن كرامته محفوظة في حضرة هذا العطاء.
إن من الجدير ذكره في سياق الشهادة، أن هذا الجود والكرم هو امتداد طبيعي لنهج "إمارات الخير" منذ عهد المغفور له الشيخ زايد آل نهيان (رحمه الله)، الذي ترك بصماتٍ من العطاء في كل بلد عربي وإسلامي، وحتى في مواطن الجاليات المسلمة بالغرب.
والحق أن ما قدّمته الإمارات خلال شهور حرب الإبادة على غزة يفوق في أثره وفاعليته ما قامت به كثير من المؤسسات الدولية، وهو ما يجسد طابع الخير الذي عُرفت به هذه الدولة عبر عقود من المحن، التي عصفت بقضيتنا.
فشكراً للإمارات؛ أميراً وحكومةً وشعباً، وللمظلة الإنسانية الواسعة المتمثلة في الفارس الشهم (3) وأذرعه من قيادات التيار الإصلاحي الديمقراطي وكوادره الشبابية النشطة، وللمهندس المبادر هاني أبو عكر، الذي جسّد بحضوره دفق الخير واستمرارية العطاء. وللجميع نقول:
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيه، لا يذهب العُرف بين الله والناس.
ختاماً.. مبادرة "إمارات الحياة العابرة للحدود"، جاءت كجسر رحمة وأمل يمتد من أرض الإمارات إلى قلب غزة، لتعيد للناس شيئاً من الطمأنينة وسط محنة الحرب وويلاتها. لقد كانت المبادرة بلسماً في زمن الجراح، ورسالة تؤكد أن العطاء الإنساني لا تحدّه خرائط السياسة ولا يقف عند أسوار الجغرافيا.