صفقة القرن امتداد لترسيخ معالم الصراع في الشرق الأوسط واستكمالاً لدور وعد بلفور
تاريخ النشر : 02 نوفمبر, 2020 05:26 صباحاً

فتح ميديا- خاص:

ثلاثة أعوام بعد المائة مرّت على صدور وعد بلفور، الذي يدفع ثمنه عشرات الأجيال الفلسطينيين من دمهم وأراضيهم وحريتهم، دون أدنى تحرك دولي، بل جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد قرن من الإعلان المشؤوم؛ ليعلن الجزء الثاني من شرعنة الاحتلال وإعطاء "ما لا يملك لمن لا يستحق".

اليوم، يستعيد الفلسطينيون ذكرى صدور وعد بلفور في الثاني من نوفمبر عام 1917، والذي منحت بموجبه بريطانيا حقًا لليهود في تأسيس وطن قومي لهم على أرض فلسطين العربية بناءً على المقولة الماكرة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

كان هذا الوعد بمثابة الخطوة الأولى لإقامة كيان يهودي على أرض فلسطين، ومنه انطلقت عصابات اليهود المُسلحة –بدعم بريطاني- لتجوب أراضي فلسطين وتنشر الذُعر في قلوب شعبها المُتجذر على أرضها منذ آلاف السنين، لإقامة وطن بالقوة على أرض مسلوبة.

خلفية تاريخية "الوعد الأول"

بدأ المُخطط  لإقامة دولة قومية يهودية على أرض فلسطين في أواخر القرن الـ19، عندما بدأت اليهود الصهاينة يهاجرون إلى فلسطين من أوروبا الشرقية، وفي عام 1879 توسعت الفكرة واتخذت خطوات فعلية على أرض الواقع، وكانت الخطوة الأولى هي انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل-سويسرا، والذي دعا لإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية للعمل من أجل تحقيق هذا الهدف. بدأت العلاقة بين اليهود وبريطانيا في أثناء الحرب العالمية للأولى، والذي جرى خلالها اجتماعات كثيرة بين زعماء الحركات الصهيونية والقادة البريطانيين الذين وجدوا في إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين مصالح استراتيجية للملكة المُتحدة.

وبعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى جاء الوعد على شكل تصريح موجه من قبل وزير خارجية بريطانيا وقتذاك، آرثر جيمس بلفور، في حكومة ديفيد لويد جورج في إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية.

أما عن الدور الأمريكي وقتذاك، فكان مؤيدًا للخطوة بريطانيا، التي عرضت نصّ تصريح بلفور على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، كما وافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميًا، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسمياً وعلنياً سنة 1919 وكذلك اليابان.

وفي عام 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر "سان ريمو" على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ، ثم وافق على الانتداب مجلس عُصبة الأمم المتحدة.

بتلك الموافقة؛ أقر العالم الغربي بأكمله ترحيبه باحتلال أرض فلسطين، فيما استغلت العصابات الصهيونية هذه المؤامرة لتحقيق حُلم كان يومًا بعيد المنال، حتى استطاعت في عام 1948 إعلان دولتها المزعومة، وليحظى هذا الكيان بعضوية الأمم المتحدة، وأصبحت إسرائيل أول دولة في تاريخ النظام السياسي العالمي تنشأ على أرض الغير، وتستمر في الاستيطان ونهب الأراضي بمساندة دولية غير مسبوقة.  

الوعد الثاني "صفقة القرن":

ومع إعلان التفاهمات الأميركيّة – الإسرائيليّة جاء الرئيس الأمريكي بوعد جديد المسمى بـ"صفقة القرن"، وفيه رسّمت الإدارة الأميركيّة عمليًا موافقتها على كافة السياسات والخطوات والمنظومات التي فرضتها إسرائيل على أرض الواقع في الضفّة الغربيّة منذ العام 1967 وحتّى يوم إعلان الصفقة: المُستوطنات جميعها؛ الطرقات جميعها؛ الحدود مع الأردن؛ القدس؛ قضية اللاجئين. وهذه حقيقة الصفقة التي صاغها الطرفان الأميركي والإسرائيلي كما جاء في الإعلان ذاته

وكأن التاريخ كان يعيد نفسه؛ حينما أعلن دونالد ترامب، يوم السادس من ديسمبر عام 2017، القُدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفاره بلاده إليها، ثم تبعته بعض الدول الغربية بنقل سفارتها ومنح القُدس هدية للاحتلال، بعد أن سعى إليها سنوات عديدة عبر إدارات أمريكية متعاقبة.

كانت إسرائيل بالفعل تنشر مستوطنيها الذين حاولوا على مدى سنوات تغيير هوية القُدس؛ المدينة المقدسة بالنسبة لليهود والمسلمين والمسيحيين والتي يُعد وضعها من أكثر القضايا الشائكة في الصراع بالشرق الأوسط.

التهويد في مدينة القدس وصفقة القرن:

الإجراءات الإسرائيلية على الأرض في مدينة القدس مستمرة. "إسرائيل" حسمت أمرها في ما يخص المدينة المقدسة منذ عدة أعوام، وصفقة القرن ستزيد هذه السياسات ضراوة وسرعة.
وإن إعلان الرئيس الأميركي ترامب عن صفقة القرن، وخاصة البنود التي تتعلق بمدينة القدس، يتماشى تمامًا مع السياسة الإسرائيلية وتنفيذها على أرض الواقع، ويسهل للإسرائيليين الهدف المنشود، بل ويختصر الوقت الذي كانت "إسرائيل" بحاجة إليه للوصول له، ألا وهو إنهاء الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، وتنفيذ مشاريع على أرض الواقع تجعل تقسيم المدينة مرة أخرى وجعلها عاصمة لأي شعب غيرهم مستحيلة.

صفقة القرن بدأت عمليًا في مدينة القدس قبل عدة أعوام، فحجم الاستثمارات الضخمة التي بدأت تُضخ لصالح "تحسين" حياة الفلسطينيين في المدينة، تاريخي. ولعل من أهم هذه الخطوات التي اتخذتها "إسرائيل" في هذا الصدد قرار الحكومة الإسرائيلية عام 2018 الذي يحمل الرقم 3790، والذي سمي في أروقة الوزارات الإسرائيلية بقرار "دمج  المقدسيين بالمجتمع الإسرائيلي".  

الاستيطان في الأغوار تنفيذاً لسياسة الضم:

بعد اعتراف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، قال ديفيد فريدمان خلال كلمته أمام مؤتمر أيباك، بتاريخ 26/3/2019، إن إدارة ترامب تتفهم حاجة إسرائيل لأن تكون لديها "سيطرة أمنية غالبة" في الضفة الغربية المحتلة ضمن أي اتفاق سلام يتم التوصل إليه مستقبلًا مع الفلسطينيين.

في ذات السياق، قال مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، بتاريخ 27/3/2019، أمام إحدى لجان الكونغرس، بشأن الموعد الذي ستكشف فيه الولايات المتحدة عن خطة السلام الإسرائيلية الفلسطينية: "سنتخلى عن المعايير القديمة التي تتعلق بقضايا مثل القدس والمستوطنات".

إن قراري الإدارة الأميركية بشأن القدس والجولان من جهة، ومواقفها المؤيدة للتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية من جهة أخرى، تعزز استراتيجية إسرائيل التوسعية، وضم مزيد من الأراضي المحتلة للسيادة الإسرائيلية في الضفة.

تأتي هذه التصريحات في ظل فرض الإجراءات والسياسات الإسرائيلية لضم أجزاء واسعة من الضفة من خلال البناء والتوسع الاستيطاني، إلى جانب جانب مطالبات أحزاب ونخب إسرائيلية بضم الضفة بالكامل، فقد طالب حزب الليكود اليميني الحاكم في مؤتمره السنوي، بتاريخ 31/12/2017، بالدفع باتجاه ضم الضفة لإسرائيل.

في ذات السياق، تمتلك إسرائيل تصورًا لمستقبل الضفة، وهو ضم مناطق واسعة من الغور والمرتفعات الغربية ومحيط القدس. في حال رفضت السلطة الوطنية العرض، من الممكن أن تُقدِمَ إسرائيل على خطوة أحادية لضم المناطق المذكورة تحت شعار "ضم أكبر مساحة من الأراضي بأقل عدد من السكان". 

في المقابل، تسعى إسرائيل لتكريس فصل قطاع غزة عن الضفة، وتتماهى الإدارة الأميركية مع هذا السياسة عبر إجراءاتها وقراراتها ضد القضية الفلسطينية من جهة، وتشجيعها على تقديم مساعدات إنسانية لغزة من جهة أخرى، بهدف تكريس انفصالها، وتهيئة التربة لتصفية القضية الفلسطينية.

تعمل إدارة ترامب من خلال قراراتها المتلاحقة على تأمين مصالح إسرائيل في محيطها العربي، سواء أكان أمنيًا بضم مزيد من الأراضي، أو من خلال تأمين علاقات طبيعية مع الدول العربية، لا سيما الخليجية، من خلال تشجيعها على التطبيع العربي الإسرائيلي. ومن جانب آخر، تهيئ قرارات ترامب المتوالية إمكانية اعترافه بأرضٍ أخرى احتلتها إسرائيل في العام 1967، ما يعني انعدام أي تسوية سياسية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على قاعدة قرارات الشرعية الدولية. 

التطبيع العربي الإسرائيلي:

صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي في 12 آذار 2019 بنيامين نتنياهو بـ"أن عملية التطبيع تجري سريعاً، وشملت أجزاء واسعة من العالم العربي والإسلامي، وهي ذات أهمية بالنسبة لرؤية السلام؛ السلام المبني على القوة". 

واستغلت "إسرائيل" البيئة العربية والإقليمية والدولية لصالح تحقيق تطلعاتها بإقامة علاقات طبيعية وتطبيعيه مع البيئة المحيطة، واعتمدت بذلك على استغلال الدعم الأميركي اللامحدود، والضغوطات على الدول العربية لتشكيل حلف مشترك لمواجهة الإرهاب والعدو المشترك، وربط حل القضية الفلسطينية بصد العدوان الإيراني. وعملت إسرائيل على زيادة وتيرة علاقاتها وزياراتها لتسويق نفسها لدى الأنظمة العربية، وتحديداً الخليجية، بأنها حليف قوي لصد النفوذ الإيراني، حيث تعمدت وسائل الإعلام الإسرائيلية تسليط الأضواء على زيارات المسؤولين لدول الخليجية خاصة، وإبرازها إعلامياً على الصعيد العربي والدولي، وبخاصة الأوروبي، لتظهر بصورة الحليف القوي المتطور اقتصادياً وتكنولوجياً، والحريص على دول المنطقة من الإرهاب، دلالة على عمق العلاقات مع الأنظمة العربية، وأن المشكلة مع الفلسطينيين وليس مع العرب.

ويعتبر هذا جزءاً من الدعاية الإسرائيلية الداخلية التي تروج لنجاح السياسة الخارجية والديبلوماسية الإسرائيلية وقدرتها على اختراق الدول العربية والإسلامية دون الحاجة للاتفاق مع الفلسطينيين.  تهدف إسرائيل إلى تصفية القضية الفلسطينية، وكسر عزلتها الدولية والإقليمية، حيث كان التطبيع، سابقاً، مرهوناً بحل القضية الفلسطينية.

وقد يبدو الموقف الإسرائيلي ظاهرياً موافقاً على حل الدولتين، وجاهزاً للمفاوضات، ويتطلع إلى الوصول للسلام، إلا أنه، من ناحية عملية، أعدم حل الدولتين، وسعى إلى تحويل حل الصراع داخلياً (فلسطين) إلى الخارج (الدول العربية) بالانتقال إلى الحل الإقليمي والسلام مع العرب، من خلال إقامة علاقات طبيعية دون حل للقضية الفلسطينية.

يكمن الخطر في التطبيع بأن إسرائيل تمعن في سياساتها غير الشرعية وجرائمها في حق الشعب الفلسطيني منتهكةً كل الأعراف الدولية، ومستغلةَ الصمت العربي والدولي للاستمرار بسياسات تصفية القضية الفلسطينية، وهذا يعني، أيضاً، كسر العزلة السياسية التي كانت تعاني منها إسرائيل، كل ذلك أدى إلى تراجع أهمية وأولوية القضية الفلسطينية لدى الأنظمة العربية لصالح قضايا أخرى.

__________________

م.ر